شاعر المواويل مثل الغواص – شبكة العرب

About This Project

bah_0

الطيب ولد العروسي/صايم سميرة المصدق

قصائد الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة ليست إسقاطا لمشاعر، فهي تمتاز برحابة أفق وألق متعدد المنعرجات والإيحاءات، منشغلة ببناء الفضاءات التي تستدعي أصواتا من الأعماق، وتستحضر حياة الناس وتشابك هواجسهم وأفراحهم لافتة إلى ارتباط الأصوات بالتحولات الاجتماعية وحفريات الذاكرة التي لها عمقها التراثي المقترن بالأهازيج والموال الشعبي والكتابة بالحواس.

ومؤخرا صدر عن دار لارمتان الفرنسية في سلسلتها الدولية الشهيرة “شعراء من خمس قارات” ديوان شعري اختار له الشاعر والأديب البحريني علي عبدالله خليفة عنوان “بلد أكبر من العالم” باللغة الفرنسية والعربية، وقد ترجمه إلى الفرنسية يعقول المحرّقي، وجاء الديوان مصحوبا بدراسة أكاديمية للباحثة انتصار البناء حول شعر خليفة وأهم سماته الفنية، كما ضمت هذه الدراسة أيضا مختارات من نصوصه بكل ما تمثله التجربة الإبداعية الطويلة التي رسخت الشاعر جماليا وفنيا.

وحفلت بالديوان مجموعة من المواضيع الاجتماعية والسياسية، حيث جاس يمنة ويسرة في خباياها، مبينا قدرة الموال الشعبي على استلهام مسرح الحياة بجرس موسيقي يجعل من مقاصده كسب رهان التلقي بالتفاعل مع المتلقي والتأثير عليه “عبر حالة من الشراكة يتورط فيها هذا الأخير بمعاني الموال ودلالاته وأسئلته وقيمته الجمالية” كما تشير إلى ذلك الدكتورة انتصار البناء.

وتطرق الشاعر المعروف بجرأته إلى الذاكرة الشعبية، وما تحتفظ به من خزينة معلومات ذاتية وجماعية يعتمد عليها في الدفاع عن وطنه، حيث يحلق عبر استعارة المكان في فضاء الوطن متمسكا به، جاعلا منه مكانا بسعة الكون، فالوطن عنده مثل الضاد والبيت والقلب والأب والأم والتميمة.

ولعل هذا الشكل الشعري العمودي أكثر محافظة على ارتباطه بالبنية الفنية التي رسمها الشاعر في قصائده، وتتراوح ما بين ستة وثمانية أبيات موزونة ومقفّاة. كما نجد الشاعر يخوض كذلك في مواضيع فلسفية، بحيث يتوالد الشكل الشعري في تحولاته ليحضر خارج الزمان وخارج المكان، وثنائية الغائب والحاضر من دون أن يلغي الواحد الأخر، لكن من دون أن ينصهر منها الواحد بالآخر.

الشاعر هنا مثل الغواص الذي يقوم بإحضار الأصداف من القاع، لكنه مثل الغواصين تماما كلما تناول الكلمات صاعدا بها من أغوار سحيقة، يعود من جديد

بلور الشاعر هذا الشكل الشعري لتتحول لغة الكلام الشعبية إلى لغة قائمة بذاتها كنظام هندسي محكوم بشروطه وقواعده الخاصة، حيث يستحسن على كل شاعر يكتب بهذه الطريقة أن يكون متسلحا بمعرفة كبيرة بالمفردات العامية والأوزان العربية، وله خبرة طويلة في كتابة مواويل لغتها قريبة من لغة المستمع.

الشاعر علي خليفة هنا وفي قصائد أخرى، يربط الشعر بالصدق، الصدق الفني والصدق العاطفي حتى لا يلجأ قارئه إلى السباحة في بحر الإيهام والأوهام، بحيث تجمع لوحاته الشعرية بين الوظيفة الإيصالية والوظيفة الجمالية. وهنا يحاول الشاعر على الدوام التأسيس إلى تجربة شعرية يرى في مقدورها تحرير قصيدته من الوقوع في قبضة المباشرة واللغة العادية.

وهذا التوافق جعل لمواله قافية مناسبة وأجراسا موسيقية جميلة وعفوية لا تحمل شيئا من التصنع والتكلف، فهو يستخدم المفردة لنقل حالة نفسية ولميزة إيقاعية حتى لو كانت تلك المفردة مستمدة من اللغة العامية المحلية. وتتجلى هذا في نسيج لغوي يؤلف بين الكلمات وتنظيمها للوصول إلى نسق وتركيب وبنية تفجر مكنون الطاقة الشعرية في الواقع كما تقدم الصدفة البحرية لؤلؤها المكنون.

وتقوم قصيدة خليفة على بنية تناص تكشف تفاعل عناصرها وأجراسها الموسيقية عن تفاعلها مع جدلية الأنا والآخر، بحيث تعمل على تجاوز الظاهري والسطحي والمباشر، وهو ما يساعدها على التجاوز المستمر للأشكال المألوفة في الموّال الشعبي، ما يقتضي معرفة عالية بالموروث الشعري العربي القديم منه والحديث.

ولعل شعراء هذا الصوت وهم يعانون من وجع البحث عن الكلمة والإبحار في زمانها لا ينسون أن على أعناقهم تقع مسؤولية مشتركة إزاء هذا الإنسان الذي يبدعون من أجله.

الشاعر هنا مثل الغواص الذي يقوم بإحضار الأصداف من القاع، لكنه مثل الغواصين تماما كلما تناول الكلمات صاعدا بها من أغوار سحيقة، يعود من جديد ودون انقطاع للغوص في بحور الكلمات.

والواقع، أن الشاعر والباحث علي عبدالله خليفة من خلال قصائده أو من خلال إشرافه على الاهتمام بالثقافة الشعبية في الخليج العربي، أو في إصداره لمجلة “الثقافة الشعبية” أو برئاسته للمنظمة الدولية للفن الشعبي، لا يزال يبذل جهودا كبيرة في صون وحماية الموروث الشعبي كلمات ومقتنيات، حيث صدرت له عشر مجموعات شعرية، وترجمت بعض قصائده إلى العديد من اللغات منها الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية، كما قدّمت الكثير من الدراسات الجامعية حول أعماله في البحرين وبعض الجامعات العربية.

Category
مقالات صحفية
Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
YouTube
Instagram
Facebook
Twitter