تجربة شعرية بين الفصحى والعامية
في زمن التقنيات الفائقة وأدوات الاتصال المذهلة بإمكان الإعلام الحديث صناعة شاعر دون موهبة والترويج له وإشغال الناس به، لكن إلى حين. فالموهبة أساس في فن الشعر وبدونها لا يكون الشعر شعرا. هذه العطية الإلهية يخص بها الله من يشاء ويوزعها على بعض من خلقه بتفاوت ومقدار.
ولا يمكن أن تقوم لأية بذرة طيبة قائمة تذكر، ويكون لها شأن النمو والعطاء إذا لم تزرع في أرض خصبة تحتضنها، وفي جو ملائم يحيط بها، وتكون في أيد أمينة وحريصة تتعهدها بالري والعناية المستمرة إلى أن تكبر وتثمر، وهكذا الموهبة. فهي بحاجة إلى تكوين وإلى تأسيس مضن ومناخ يساعد على التفتح والازدهار وتتهيأ بهذا المناخ بواعث الإلهام والتحريض على الخلق والإبداع..
ولا يمكن الاستدلال على طبيعة تلك الموهبة منذ البداية، فهي كالسر الكامن بحاجة إلى عناء الاستشفاف والكشف من خلال المعطيات الأولية لتلك الموهبة التي تتلمس طريقها إلى النور بإحساس صاحبها أو بخبرة من حوله من العارفين، الذين لا بد وأن يعينوا صاحبها على الوقوف وتعلم المشي كي يضع أقدامه على أول الطريق. ومن الطبيعي أن تتلاشى وتضمحل المواهب الضعيفة في جو عدم الرعاية والمثابرة أو الإحباط المتكرر حيث لا تصمد إلا المواهب القوية أو غير العادية.
وأستطيع اليوم أن أتبين شيئا من المحطات التي مررت بها خلال سنوات العمر وكان لها تأثير بليغ على مسار رفقتي الجميلة مع هذا الفن العظيم، وهي محطات عشتها ولم أكن أعي وقتها بالطبع ماذا كانت تعني لي أو لعلاقتي بالشعر، لكنني الآن كلما عدت وتفحصت الذاكرة، وجدت دقائق وتفاصيل منها تسكنني مضيئة وماثلة. ولا أغنى للشاعر أو ربما لأي مبدع من مخزون الذاكرة، هذا المؤثر الخطير الذي ينثال وينهمر مع أغلب التجارب الشعورية ليحف الإبداع في لحظة الخلق ويزوده بالمشاهد وباللقطات الحية وبالرؤى والوجوه والأماكن وبالعديد مما لا يمكن أن يخطر ببال المبدع نفسه.
ولقد عايشت كتابة الشعر لأكثر من أربعين عاما، إذ نشرت أول محاولة لي في بيروت عام 1963 وأصدرت مجموعتي الشعرية الأولى ( أنين الصواري ) عام 1969 وها هي مجموعتي الشعرية السابعة ( لا يتشابه الشجر ) على وشك الصدور بعد أيام قليلة، ليصل مجموع ما أصدرته إلى سبع مجموعات منها مجموعتان بالعامية، وسأصدر مجموعة ثالثة خلال هذا العام. في هذه المعايشة التي استحوذت العمر زاوجت كتابة الشعر بالفصحى والعامية وتعرضت لهجوم عنيف من زملائي مثقفي البحرين الذين استهجنوا ارتدادي إلى العامية من بعد أن أصدرت مجموعة شعرية بالفصحى ذلك الوقت. وقد عذرتهم جميعا كونهم لم يعلموا بأني كنت أزاوج الكتابة بالفصحى وبالعامية منذ بداياتي الأولى. وكانت الأسئلة الجوهرية التي طرحها زملائي ذلك الوقت : كيف يكتب شاعر متعلم شعرا بالعامية ؟ في وطن عربي تتعدد فيه اللهجات وتتعرض فيه اللغة الأم لتحديات. ولماذا يكتب هذا الشاعر شعره بالعامية وهو قادر على التعبير بالفصحى؟ كان الوقت تلك الأيام وقت الحديث عن التزام الكاتب وعن صلته بالناس وعن دوره في المجتمع ، وقد عذبتني هذه الأسئلة في البداية وأنا أرى ذلك القبول الواسع للمواويل التي ضمتها مجموعة ( عطش النخيل ) عام 1970 ولهفة جمهور البحرين والخليج على تلقف المزيد. لكني عندما عدت إلى نفسي وضعت قبول الناس جانبا وطرحت تلك الأسئلة من جديد، فتبينت أن لا يد لي في اختيار لغة الكتابة وأنني بكل أمانة لا أستطيع إلا الاستجابة لما أحس به وبالصورة التي يختارها ذلك الاحساس.
ولقد قلت عند بداية السبعينيات عند إصدار مواويل ( عطش النخيل ) بأن كتابة الشعر بالعامية كتابة مرحلية، وأن هذا الشعر بلا مستقبل لأن اللهجة في تطور يومي مستمر بفعل تطور المجتمع وانتشار التعليم، وتنبأت بأن تضيق الشقة ما بين الفصحى والعامية بحيث ترقى العامية شيئا فشيئا لتصل أقرب ما تكون للفصحى. هذه الرؤية كانت جلية أمامي وها هي تتحقق اليوم من بعد خمس وثلاثين عاما كأروع ما تكون فيما يكتبه شعراء العامية الجدد في سلطنة عمان بالتحديد وفي بعض ما يكتبه قلة من شعراء دول الخليج الأخرى. فاللغة التي يكتبون بها ليست هي العامية التي كتبت بها أشعاري عند أوائل السبعينيات تلك اللهجة التي لم تكن بالطبع لهجة الشارع وإنما هي امتداد لتلك اللهجة المصفاة التي حملها إلينا الشعر الشعبي في أرقى وأعذب نصوصه. وما زلت أكتب أشعارا بالعامية، لكن نتاج الفصحى الجديد لدي طغى على نتاجي بالعامية خلال السنوات الأخيرة، وما أكتبه بالعامية الآن ليست له صلة قوية بما كتبته قبل ثلاثين سنة على سبيل المثال. فهناك فرق في التعامل مع المفردة وفي رسم الصورة وفي صياغة التعبير وحتى في طريقة رسم الكلمة على الورق، كما أن اللهجات العربية لم تعد حاجزا في وطن عربي تتوزعه اللهجات في وقت أصبح فيه العالم كله مجرد قرية صغيرة.
ولقد عايشت كتابة الشعر لأكثر من أربعين عاما، إذ نشرت أول محاولة لي في بيروت عام 1963 وأصدرت مجموعتي الشعرية الأولى ( أنين الصواري ) عام 1969 وها هي مجموعتي الشعرية السابعة ( لا يتشابه الشجر ) على وشك الصدور بعد أيام قليلة، ليصل مجموع ما أصدرته إلى سبع مجموعات منها مجموعتان بالعامية، وسأصدر مجموعة ثالثة خلال هذا العام. في هذه المعايشة التي استحوذت العمر زاوجت كتابة الشعر بالفصحى والعامية وتعرضت لهجوم عنيف من زملائي مثقفي البحرين الذين استهجنوا ارتدادي إلى العامية من بعد أن أصدرت مجموعة شعرية بالفصحى ذلك الوقت. وقد عذرتهم جميعا كونهم لم يعلموا بأني كنت أزاوج الكتابة بالفصحى وبالعامية منذ بداياتي الأولى. وكانت الأسئلة الجوهرية التي طرحها زملائي ذلك الوقت : كيف يكتب شاعر متعلم شعرا بالعامية ؟ في وطن عربي تتعدد فيه اللهجات وتتعرض فيه اللغة الأم لتحديات. ولماذا يكتب هذا الشاعر شعره بالعامية وهو قادر على التعبير بالفصحى؟ كان الوقت تلك الأيام وقت الحديث عن التزام الكاتب وعن صلته بالناس وعن دوره في المجتمع ، وقد عذبتني هذه الأسئلة في البداية وأنا أرى ذلك القبول الواسع للمواويل التي ضمتها مجموعة ( عطش النخيل ) عام 1970 ولهفة جمهور البحرين والخليج على تلقف المزيد. لكني عندما عدت إلى نفسي وضعت قبول الناس جانبا وطرحت تلك الأسئلة من جديد، فتبينت أن لا يد لي في اختيار لغة الكتابة وأنني بكل أمانة لا أستطيع إلا الاستجابة لما أحس به وبالصورة التي يختارها ذلك الاحساس.
ولقد قلت عند بداية السبعينيات عند إصدار مواويل ( عطش النخيل ) بأن كتابة الشعر بالعامية كتابة مرحلية، وأن هذا الشعر بلا مستقبل لأن اللهجة في تطور يومي مستمر بفعل تطور المجتمع وانتشار التعليم، وتنبأت بأن تضيق الشقة ما بين الفصحى والعامية بحيث ترقى العامية شيئا فشيئا لتصل أقرب ما تكون للفصحى. هذه الرؤية كانت جلية أمامي وها هي تتحقق اليوم من بعد خمس وثلاثين عاما كأروع ما تكون فيما يكتبه شعراء العامية الجدد في سلطنة عمان بالتحديد وفي بعض ما يكتبه قلة من شعراء دول الخليج الأخرى. فاللغة التي يكتبون بها ليست هي العامية التي كتبت بها أشعاري عند أوائل السبعينيات تلك اللهجة التي لم تكن بالطبع لهجة الشارع وإنما هي امتداد لتلك اللهجة المصفاة التي حملها إلينا الشعر الشعبي في أرقى وأعذب نصوصه. وما زلت أكتب أشعارا بالعامية، لكن نتاج الفصحى الجديد لدي طغى على نتاجي بالعامية خلال السنوات الأخيرة، وما أكتبه بالعامية الآن ليست له صلة قوية بما كتبته قبل ثلاثين سنة على سبيل المثال. فهناك فرق في التعامل مع المفردة وفي رسم الصورة وفي صياغة التعبير وحتى في طريقة رسم الكلمة على الورق، كما أن اللهجات العربية لم تعد حاجزا في وطن عربي تتوزعه اللهجات في وقت أصبح فيه العالم كله مجرد قرية صغيرة.
كيف ولماذا أزاوج في كتابة أشعاري بالفصحى وبالعامية؟
أود أن أعترف صادقا، بأن ذلك خارج إرادتي تماما، ومن تجربة فعلية فإنني لا أملك خيار لغة القصيدة، وإنما هي التي تختار عند التخلق ما تريد. وأن ذلك كان وما يزال غائبا ليس عن عامة المثقفين وإنما حتى عن بعض المتمرسين من نقاد الشعر لبعدهم عن فهم طبيعة التجربة الشعرية وبعدهم عن تفهم ما يكتب بالعامية، إما تزمتا أو انصياعا لما هو سائد من موقف مسبق تجاه حركة الشعر الشعبي منذ نشأتها. ولا أقول هذا دفاعا عن العامية أو تحيزا لها ، فالعربية الفصحى هي الأم والعامية أية عامية عربية ما هي إلا فرع صغير من فروعها يجب عدم إنكاره أو التبرؤ منه. وأنا هنا إنما أقول ذلك عن معايشة حياتية أرى اليوم بأنها من صنع ظروف نشأتي وتربيتي وتكويني الثقافي الأولي.
فلقد مر تكويني الثقافي، الذي هو عدة تجربتي الشعرية، بمحطات حياتية كل منها حفر في ذاكرتي ما أراد وأسلمني إلى محطة أخرى. والذي يعنينا هنا منها محطتان مهمتان جاءتا عند بداية حياتي وأنا طفل دون السادسة من العمر. هاتان المحطتان الأوليين متداخلتين، وأجدني لا أعرف الآن أيهما تسبق الأخرى، فكأني وأنا فيهما قد وضعت رجلا هنا ورجلا هناك في آن واحد، وهما محطتا الفصحى والعامية. فلقد نشأت في بيت مغرم نهارا بمناسبة وبدون مناسبة برواية وترديد الأشعار الشعبية من مجزوء القصائد ونثار الأبيات المتفرقة والمواويل والبوذيات والأزجال ونصوص الأغاني الشعبية، ويجري التفاخر والتنافس بين أفراد هذا البيت بعدد وأجود ما يحفظون منها عن ظهر قلب، فكان من الطبيعي الانخراط في التلقي والحفظ والترديد. وفي الليل كان خيالي الصغير يُعبأ بالحكايات الشعبية والأساطير وأحزان النساء المترعات بالوجد. فلقد رضعت الشعر الشعبي تماما مع أول قطرة من صدر تلك الأم البسيطة التي كانت بالنسبة لي حتى آخر ساعة لها في الحياة مستودعا لا ينضب من تلك المادة. و هي التي أصرت وأنا في السادسة على أن أتلقى في الكتاب مبادئ القراءة وأن أظل به حتى أحفظ القرآن الكريم وأجوده. وهنا كانت محطتي الأخرى وكان أول لقاء لي مع الفصحى في أبهى وأغنى وأكرم معانيها وأرفعها بلاغة وأكثرها إعجازا. وما تزال سورة مريم وسورة الرحمن بكل ما فيهما من فن القول واتساق الجرس وفخامة الإيقاع وإعجاز المعاني محفوظتان عندي عن ظهر قلب كما تلقيتهما من ذلك المصدر. ولم أكن وقتها أعي ماذا كان يعني لي حفظ وترديد آيات الذكر الحكيم على يد المرأة المعلمة الشديدة التي لا تقبل بأي اعوجاج في اللسان أو ارتجاج في النطق أو تهاون في التشكيل، وأن لكل حرف في أي كلمة حقه المعلوم في النطق والتنغيم والترخيم والأداء الكلي للفظة المحددة. الآن فقط أدرك قيمة ذلك التأسيس الأول وتلك النعمة التي حظيت بها مبكرا وأسعفتني كثيرا في فن كتابة الشعر وفي فن إلقائه وفي تعلم اللغة العربية على أصولها النظامية بالمدارس من بعده والاستزادة بالقراءة والاطلاع لاحقا..
كانت نصوص الشعر الشعبي المجتزءة يحرضني إشعاعها على طلب المزيد فأولعت بالبحث عن أصول تلك القصائد في المدونات ولدى كبار الرواة فقرأت دواوين عبد الله الفرج ومحمد بن لعبون ومحسن الهزاني وفهد بورسلي ومحمد الفيحاني وما تيسر لي وقتها من الشعر النبطي لكبار الشعراء. وقادني الولع بالشعر الشعبي شيئا فشيئا إلى الاهتمام بجمع وتدوين نصوص الأدب الشعبي في المنطقة بصفة عامة، وامتد بي ذلك إلى ساحة الشعر العراقي القديم والحديث فقرأت لإبن الخلفا وعبود الكرخي وأبو ضاري وأبو سرحان ومظفر النواب وكل ما وقع تحت يدي من الشعر العامي العراقي الحديث، وكان همي هو التعرف على المدرسة النجدية و المدرسة البصرية في الشعر الشعبي بكل خصائصهما.
ويستغرب كثير من الناس كيف يمكن الجمع ما بين كتابة الشعر بالفصحى وبالعامية في آن ؟ وفي أي حالة يكون الشاعر وهو يختار لغة القصيدة؟ ولماذا لا يستطيع شاعر الفصحى أن يبدع بالعامية أو بالعكس حين يجيد الفصحى ؟ ولماذا لا يكتب شاعر كالأبنودي بالفصحى وهو المجيد بالعامية ؟ ولماذا الشاعر مظفر النواب يكتب بالفصحى ويكتب بالعامية أيضا ؟ أسئلة طالما واجهتني خلال مسيرتي الشعرية.
والأمر من بعد أن تأملت مليا وجربت عمليا، وجدت أن كتابة الشعر بالفصحى موهبة مستقلة قائمة بذاتها، وكتابة الشعر بالعامية هو أيضا موهبة مستقلة قائمة بذاتها، وكذلك فن إلقاء الشعر موهبة مستقلة أخرى عن الموهبتين السابقتين، بدليل أن هناك من لديه موهبة فن إلقاء الشعر وليس بشاعر وهناك من الشعراء المجيدين من يفشل عند قراءة أشعاره. والله يعطي البشر قدر ما يشاء من النعم. وبلا شك بأن لكل موهبة من تلك المواهب طبيعتها الخاصة وتراثها المتميز والمتواصل أيضا مع الآخر إلى جانب مختلف التقنيات والأدوات الضرورية اللازمة. فكنت أواجه نقد الساحة الأدبية في البحرين بالاستجابة إلى ما يعتمل داخلي تاركا لكل موهبة لدي أن تعبر عن نفسها بالعامية أو بالفصحى وأن تستنفد طاقتها المخزونة إلى أن تنضب أو تموت.
ولا شك بأن لكل موهبة تقنياتها وهناك من اعتقد مخطئا ممن لم يفهموا طبيعة تجربتي الشعرية ولم تكن لديهم دراية بطبيعة الشعر العامي بأن تجربتي الشعرية قد انشطرت نصفين، عندما نشرت أشعارا بالعامية، وأن تجربتي بالفصحى ستصل بي إلى طريق مسدود، معتبرين التجربة الشعرية لوحا من الخشب تحت المنشار، ولم يكن أحدا منهم يعلم بأنني كتبت بالفصحى والعامية منذ البدابة وأني أمتلك بفضل الله موهبتين شعريتين.